قال :قد دارت بنا الأيام قدر ما دارت .. إقتربنا بعدما ابتعدنا .. وابتعدنا بعدما اقتربنا
وهـــا نحن الآن .. نقترب من جديد .. بعد طـــول فراق
قالت :ليس كل من نتمكن من لقائهم بقريبين .. فكثرة السفر وعدم الاستقرار فى دنيا المشاعر تخلق اضطراباً وغموضاً .. لكثرة اللغات التى نصطدم بها .. ولا نفهمها !
قال :كثرة السفر والترحال بين الناس يا سيدتى تخلق نوعاً من المعرفة الحقيقية بطبائع البشر
فكثرة سفرى جعل عقلى اكثر نضجاً .. ونظرتى لمن حولى أكثر حدة وعمقاً
أصبحت الآن أميز ما بين المعادن الحقيقة التى يصلح إقتناؤها إلى الأبد ..
وبين تلك المعادن الخادعة لناظريها ببريقها الزائف
قالت :وهل علمت للراحه نهجاً؟ .. هل جنيت ثماراً تنفعك وتنفع بها؟
أم جنيت أشواكاً .. تؤذى بها الناس .. ثم تنقلب عليك يوماً ما؟
قال :أجل ,بالطبع قد علمتُ سبيل راحتى
فبعد سنوات من الإنتقال ما بين هذا الشاطئ وذاك ..
من الغباء ألا أُوجِّــه سفينتى إلى البر القريب إلى قلبى ..
أُلقِى فيه بمرساتى التى عاشت حائرة بين مختلف البحار والشطآن
قالت :أحياناً نظن أننا على صواب .. لكن الزمن يبرهن لنا كم كنا مخطئين !
قال : أنا لم أعد ذاك الفتى الصغير الذى يدفعه جنون وطيش الشباب
لقد ازددت خبرة أضفت إلى عمرى عمراً آخر غير معدود السنوات
قالت : العمر الآخر لا يكون عمراً .. إلا إذا أخذ مراحل تكوينه وتدرجه
بداية بالطفولة وبراءتها .. ماراً بالشباب وجنونه .. منتهياً بالمشيب ووقاره
قال : الطفولة والشباب قد أُفْلِتت من يدىّ وطَوَيْتُ تلك الصفحات التى كُتِبَت فيها
لم أطويها فحسب .. بل أحرقتها
قالت : وإذا أحرق الإنسان أيام عمره التى قضاها .. فما الذى سيتبقى له؟
قال : المستقبل
قالت : وكيف تراه إذن وقد أحرقت سنوات عمرك السابق .. بيديك ؟!!
قال : إننى أراه كما أراكِ الآن
لا فارق بينكِ وبين مستقبلى .. لأنك أنتِ مستقبلى
لا أستطيع أن أتخيل أحدكما دون الآخر .. أبــداً
قالت : لقد كنتُ ذكرى حية تتلألأ فى ماضيك
وها أنت قد سهل عليك أن تشب نيراناً بماضيك .. فاحترقت أنا
ومن سهل عليه قتلى مرة .. سهل عليه قتلى ألف مرة
قال : إذا كنت قتلتكِ .. لَمَا جئتُكِ اليوم بعدما رأيت الكثير والكثير فى حياتى
لَمَا كنتُ أرى فيكِ حاضرى .... ومستقبلى
قالت : أنت لم تقتلنى كياناً
أنت قتلتنى إحساساً وشعوراً ..وسلبت من عروقى الدم كى تحيا أنت وأموت أنا
فبعدما بعدتَ وهجرتَ دفء أراضينا
لم يبقى في حياتى سوى البرودة والعصف .. لأن دفأها قد رحل .... برحيلك
قال : وها ذا الدفء يعود من جديد كى يحيا فى كنفه صانِعيِه
قالت : لا يمكن أن يعود الدفء دفءً بعدما اختلط ببرودةٍ وصقيعٍ
وحتى وإن أصاب رأيك .. وعدتُ كما كُنْتَ داخلك
فلن أعود أنا كما كُنْتُ سابقاً
لن أستطيع ثانية أن أشعر حرارة الأشواق .. وألم الفراق الذى كنت أشعر به
منذ زمن مضى
سكتت برهة ثم أكملت :
زمن لن يرجع أبداً
قال : ولِمَ تلك المسافة التى تصنيعينها بيننا؟
لِــــمَ؟
ما سببها؟؟
قالت : لست أنا من صنعتها .. بل أنت من سهرت لياليك فى رسمها
ولأنك أثبت براعة فى رسمها .. نلت جدارة تنفيذها
ولقد فعلت حقاً !
أراد أن يتكلم .. فقاطعته
وقالت : سنوات طوال لم أرى فيها غير قسوة البعد ولوعة الفراق
كل يوم تشرق فيه شمس الصباح .. يكون لك فى قلبى غروباً
حتى أًفَلْت تماماً عن عالمى
والآن لا أستطيع أن أراك شمساً تبث لىّ دفءً .. ولا أستطيع أن اراك قمراً ينير لىّ درباً!
قال : لم أعهدكِ بتلك القسوة والكبرياء من قبل!
قالت : لأنكَ أنتَ من اخترت البعد
وفى البعد تغير كل ما حولى .. فتغيرتُ كمن حولى
قال : كنت أظن أن لقاءنا سيصبح أكثر حرارة
يبدو أننى غبت طويلاً جـــــداً
قالت : أأنت مدرك لتلك الحقيقة الآن ؟؟!!
.. الآن فقط؟!!
كان يجب أن تدركها من البداية .. كما أدركتها أنا
قال : فى أيدينا أن نمحى تلك الحقيقة من الوجود .. ونبدأ معاً بدايةً لا يتخللها جراحاً فى قلوبنا
قالت : لقد شُغلت أنتَ بحياتك عنى
وعندئذ شُغلتُ أنا أيضاً بحياتى عنكَ
ومن شغلته الحياة ومتاعبها .. من الصعب أن يعبأ لقلبه وأحساسيسه ثانية
قال : ألستُ طبيباً لقلبكِ كما زعمتِ من قبل؟
قالت : لقد كنت أزعم فى يوم من الأيام أنكَ طبيبى
لكن بتلك الفجوة التى حدثت بيننا .. كرهتُ الطب والأطباء
لأنهم يداوون .. وفى المداواة ألم
وكلما ازددت ألماً .. ازددت كرهاً لمن يؤلمنى
فأصبح الداء والدواء .. سوااااءاً
قال : لم أعهدكِ أبداً هكذا ..
ولم أكن أتوقع أن ألقاكِ هكذا ..
أبداااااا
قالت : إذَنْ .. عُدْ إلى حيث أتيت
فما زلت غير مدرك بطبائع الناس ومعادن البشر .. كما كنت تظن وتدعى !
قال : أتريدين رحيلى؟
قالت : وجودك ورحيلك أصبحا أمرين متساويين
لكن الأفضل لك .. أن تعاود الإبحار من جديد
عسى أن تلقى ذلك الشاطئ الذى تتمنى أن ترسو به سفينة قلبك
لأن شاطئى أصبح يلفظ أى سفينة ..
مادمت أنت رُبَّانُــهـا !